-
من "ڤيدانا سودها" إلى الفضاء .. بنجالور صرح الحكم المقدس ومهد التكنولوجيا الحديثة
بنجالور في ٢٨ يونيو /أ ش أ/ من .. بسنت مصطفى
"عمل الحكومة هو عمل مقدس".. تلك هي العبارة الرسمية التي تزين مدخل مبنى "ڤيدانا سودها" في قلب مدينة بنجالور بجنوب الهند لا تبدو مجرد شعار محفور على الحجر، بل بياناً سياسياً وروحياً يلخص فلسفة الحكم في ولاية كارناتاكا.
فهذا المبنى الضخم، الذي يضم تحت قبته السلطتين التشريعية والتنفيذية، لا يعد فقط مقراً للمجلس التشريعي لولاية كارناتاكا، بل تدار منه أيضاً الحكومة المحلية، وتتخذ داخله قرارات ترسم ملامح الولاية سياسياً واقتصادياً.
تصميمه الفريد المستلهم من العمارة الدرافيدية، وواجهاته المكسوة بالجرانيت الرمادي، وأعمدته الكلاسيكية المزخرفة، تجعله يبدو كصرح يعكس رؤية حديثة للهند تحترم جذورها وتنفتح بثقة على المستقبل.
تحت هذه الكلمات ، يقف المبنى شامخاً في قلب مدينة بنجالور، محاطاً بالأشجار، ومكسواً بحجر الجرانيت الرمادي.. فالتصميم العريق، والأعمدة المزخرفة، والقبة المركزية التي تتوسطه ، كلها توحى بأن ما يجري بداخله لا يقاس فقط بلغة التشريع ، بل بلغة التاريخ أيضاً.
عند مدخل المبنى، يقف المرشد البرلماني جى جانناناشاخير J. Gnanashakher ، رجل ستينيّ ذو ملامح هندية أصيلة، وذاكرة تحتفظ بألف حكاية، كان يرتدي زيًا هندياً أصيلًا، يتحدث الأنجليزية بطلاقة، ويقول بصوته العميق وبكل فخر: "هذا ليس مبنى.. بل شاهد على من نحن، وهو رمز للديمقراطية الهندية والفخر الحضاري".
ثم يضيف بابتسامة لم تفارقه "أنا أعشق الحضارات… ولا شيء يسعدني أكثر من أن أزور مصر ولطالما تمنيت أن أرى المتحف المصري الكبير".
وخلال الجولة التي قامت بها موفدة وكالة أنباء الشرق الأوسط مع الوفد الصحفي المصري والإفريقي داخل المجلس التشريعي، كان المرشد المرافق يشرح كل زاوية بالمكان كما لو كان يعرفها منذ طفولته، يشير إلى الأعمدة ، ويهمس ببعض التواريخ، ويكرر بين حين وآخر بفخر "هنا لا نكتب القانون فقط… نحن نظهر كيف يمكن للناس على اختلافاتهم أن يجلسوا سوياً ويصنعوا شيئا مشتركا".
وتقول موفدة وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى الهند إنه داخل المبنى العريق، تصطف الأعمدة الرخامية تحرس الذاكرة، وترتفع الأسقف بزخارف دقيقة، وفي الممرات يسود الصمت .. وتعد قاعة النواب، التي تقع في قلب المبنى، أكثر من مجرد قاعة اجتماعات بتصميمها نصف الدائري، ومقاعدها الخشبية المصقولة ومنصتها الرئاسية المرتفعة التي يعلوها شعار الجمهورية ، وعلى يمين المنصة ، تزين الجدار صور رموز بارزة في تاريخ الهند ، أبرزها صورة الزعيم المهاتما غاندي، الحاضر دوماً بروحه وسط النقاشات.
خارج أسوار "ڤيدانا سودها"، تبدأ المدينة بالكشف عن وجهها الآخر، فبنجالور، العاصمة النابضة بالحياة، تملأ شوارعها الحركة وتختلط فيها زحام المرور مع صخب الشارع النابض والمحال الصغيرة التي تبيع كل شيء فى مدينة لا تنام.
وتفاجئ المدينة زوارها بأن صخبها محاط بممرات خضراء وحدائق عامة شاسعة، وتتجاور ناطحات السحاب مع منازل قديمة، وترفع لافتات البرمجة والذكاء الاصطناعي بجوار محال الساري والتوابل،بينما تتردد في الأفق روائح البخور والشاي الهندي، وأصوات الأجراس والموسيقى الكلاسيكية الكارناتيكية.
وتُعرف بنجالور باسم "وادي السيليكون الهندي" حيث تحتضن مئات الشركات الكبرى مثل Infosys وWipro وGoogle وIBM، إلى جانب آلاف الشركات الناشئة التي تديرها عقول شابة تسعى لصناعة مستقبل رقمي على أرض الهند.
وفي قلب هذه النهضة، تبرز الصناعات الدوائية كمصدر آخر لقوة المدينة ، فبنجالور تحتضن مقر شركة بيوكون Biocon الرائدة في مجال التكنولوجيا الحيوية و التي تنتج أدوية حيوية متقدمة لعلاج السرطان والسكري وتوسع حضورها الدولي من الهند إلى إفريقيا والشرق الأوسط.
كما تنتشر في المدينة مختبرات ومراكز أبحاث وشركات دوائية عالمية أخرى جعلت منها مركزاً هاماً للتطوير الدوائي ، والتعليم الطبي ، والشراكات العابرة للحدود، بما في ذلك مع مصر وعدد من الدول الإفريقية.
وفي ذات المدينة تتجلى قمة التقدم العلمي في المنظمة الهندية لأبحاث الفضاء (ISRO)، التي تتخذ من بنجالور مقرا رئيسيا لها.
وقد أتيحت للوفد الصحفي الزائر فرصة القيام بجولة داخل المنظمة ، ولقاء مسؤوليها الذين استعرضوا ما حققته الهند من إنجازات غير مسبوقة في مجال الفضاء.
وخلال الحوار، تم تسليط الضوء على جهود المنطمة الهندية في التعاون مع دول الجنوب العالمي، لا سيما الدول الإفريقية ومصر، في مجالات التدريب وتبادل الخبرات والبحث المشترك ، ما يعزز موقع الهند كمركز للمعرفة والتقنيات المتقدمة.
وتعد بنجالور جزءا من ولاية كارناتاكا، التي تقع جنوب غرب الهند، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 64 مليون نسمة، وتعرف بتنوعها اللغوي والديني، حيث تتوزع الأغلبية بين الهندوس والمسلمين والمسيحيين، وتعد من أكثر الولايات استقراراً من حيث النمو الاقتصادي.
وتحتضن كارناتاكا جامعات مرموقة، ومراكز أبحاث، ومجتمعاً مدنياً نشطاً، وتوازناً متنوعاً بين الحداثة والبيئة والهوية الثقافية.
وفي ظل هذا التنوع ، تبدو بنجالور نموذجاً لمدينة توازن بين الأصول والرؤية ، تجمع بين الأصوات المرتفعة في الأسواق والنقاشات الدقيقة في المختبرات ، فهى مدينة تصدر برمجيات وأدوية وأقماراً صناعية لكنها تحتفظ بعبق التاريخ وأغانيها القديمة.
إنها " بنجالور " .. حيث تصاغ القوانين في الصباح، وتنسج الشفرات البرمجية في المساء ، وتعانق الهند الفضاء في الفجر.
ح س م
أ ش أ